“خمسون سنة”


سعيد غريّب

 
كانت الساعة تشير الى الثانية من بعد ظهر الأحد الواقع فيه 13 نيسان 1975 عندما أرسل آمر فصيلة الدرك في فرن الشباك الى القيادة العامة في قوى الامن الداخلي االبرقية الآتي نصّها:”
الحاقا لبرقيّتنا الرقم 2668  تاريخ اليوم، أقفلنا شارع مار مارون في عين الرمّانة بدوريتّين لمنع مرور عناصر فدائية، ولكنّ سيارة فيات فيها مسلّحون مرّت عنوة ولم تمتثل، وما ان وصلت الى منتصف الشارع المذكور حتّى تبادلت اطلاق النار مع عناصر من المحلّة، وكانت النتيجة أن جرح فدائي وشخص آخر من الكتائب يدعى جوزف أبو عاصي ويشاع أنّه توفّي، ويوجد اوتوبيس بداخله عدد من القتلى والجرحى لم نتمكن من الوصول اليه، بسبب اطلاق النار بغزارة. حالة الأمن مضطربة جدا، ويمكن أن تجرّ البلاد الى حوادث دامية. انّها تتضاعف تدريجيا ونطلب التدخل السريع،لتطويق الحادث على مستوى عال… سنفيد.” التوقيع النقيب عصام عبد الساتر
 
بهذا الايجاز البالغ وصف كاتب البرقية حادث عين الرمانة الشهير الذي أصبح في غضون ساعات، بمنزلة اعلان حرب ستننتهي ميدانيا، بعد نيّف وخمس عشرة سنة، وتستمرّ بأشكال مختلفة الى تاريخ لم يحدّده بعد، لا قرار دوليّ ولا الشعب اللبنانيّ. خمسون سنة مضت ولم يعرف بعد لا الذين أطلقوا النار من سيّارة الفيات،ولا الذين هاجموا الباص، ولا الشرطي البلدي الذي أشار الى سائق الباص بوجوب سلوك طريق عين الرمّانة. ولمّا انتهت الحرب في لبنان وعليه في أواخر العام 1990، خفت من السلام لأنّ الحرب هي تحدّي الموت فيما السلام هو تحدّي الحياة، ولأنّنا لم نكن جاهزين للسلام.
 
بعد خمسين سنة، لم يعد لدينا من الوقت ما نضيّعه. لقد ضاق الزمن، وكلّ لحظة منه، قياسا الى ظروفنا، تعادل عمر انسان. بعد خمسين سنة، لم يعد لبنان يشبهنا، ولم نعد نؤمن كثيرا بأنّّنا مقبلون على لبنان جديد يخرج من التجربة. بعد خمسين سنة، بقيت المشكلة الكبرى لأنّ دماء الشهداء، كلّ الشهداء بقيت ثمنا لحصص في الحكم والسلطة. بعد خمسين سنة، يستمرّ اللاعبون بأولادهم عملا بالقول المأثور “مين خلّف ما مات”. ولكنّ الحقّ يقال ان ما من شعب في العالم يستطيع أن يتحمّل خمسين ساعة من اصل خمسين سنةأمضاها اللبنانيون وخسروا فيها كلّ شيء، القيم والعلوم الانسانية وما أورثهم ايّاه الأجداد وأجداد الأجداد. والحقّ يقال ايضا انّ هذا الشعب لا يزال بعمل بكلّ قواه لاستعادة ما خسره بكلّ الوسائل الحضاريّة والديموقراطيّة.
خمسون سنة مضت، وكأنّنا نحاول المستحيل، نحاول وعند كلّنكسة، نعود فنبدأ من الصفر كما النملة التي تحمل حبة تكبرها حجما ووزنا. وللحقيقة نقول أيضا انّ مأساة لبنان لا شبيه لها.فالنظام اللبناني أعطى الدليل تلو الدليل على عجزه عن أداء الدور الطبيعي الذي يؤديه عادة أيّ نظام ديموقراطي، أعني دور صمّام الأمان. واستطاع أن يستدرج الخارج لمعظم مشاكله، لأنّه لم يستطع عبر السنين أن يتحوّل الى وطن، ولأنّ شعبه لم يتوصّل الى شفاء الذاكرة وتنقيتها من رواسب الحرب والازمات المستعصية منذ انشاء دولة لبنان الكبير، ولأنّ اللاعبين استمرّوا بأولادهم وأحفادهم وأشقائهم وأصهرتهم واحتفظوا بالزعامة مدى الحياة، ولأنّ نعمة الحريّة يساء اليها وبها حين يعبث بها اعلام خاص تحوّل بعضه الى مؤسسات تجارية ناطقة بالكلام الرخيص، بعدما كان صناعة هي الأغلى في الشرق وربما في العالم. بعد خمسين سنة هل تغيّرت سياسة واشنطن تجاه لبنان وهل نشهد تحوّلا ايجابيا في السياسة الأميركية الجديدة ؟ ربما ولكن بعد حسم مسألة ايران.
 
وفي الانتظار أكتفي بسرد هذه الوقائع عن السياسة الاميركية ولا سيما في لبنان. في العام 1983، سأل الرئيس تقي الدين السفير الأميركي لدى لبنان:  هل انتم في لبنان من أجل الاهتمام بلينان أم من أجل قضيّة اخرى؟” فابتسم السفير واكتفى بالقول: ” لقد أعجبني السؤال”. وتذكّر الرئيس الصلح عام 1958 عندما جاء الاسطول الاميركي السادس الى بيروت وكان الظن أنه جاء للاهتمام بلبنان فتبيّن لنا ” أنّ تاريخ وصوله وهو 16 تموز كان بعد يومين على ثورة العراق يوم 14 تموز”. كفى خمسون سنة نريد أن نعيش كم يوم “مثل الخلق”.