الإنجيل بحسب القديس متى
يوحنا ١٢/ ١٢ – ٢٢
يسوع يدخل أورشليم
ولما قَرُبوا من أورشَليم، ووصلوا إِلى بَيتَ فاجي عندَ جَبَلِ الزيتون، حينئذٍ أرسل يسوع تلميذين وقال لهما : “إذهبا إلى القرية التي تُجاهَكُما، تَجِدا أَتَاناً مربوطةً وجَحْشَاً معها، فحلّا رباطها وأتياني بهما . فإن قال لكما قائل شَيئاً، فأجيبا : الرَّبُّ مُحتاج إِليهما فيُرْسِلُهما لِوَقْتِه”. وَإِنَّمَا حَدَثَ هذا لِيَتِمَّ ما قيل على لسان النبي: قولوا لبنتِ صهيون : “هُوَذَا مَلِكُكَ آتياً إِلَيكِ وديعاً راكباً على أَتانٍ وجَحْشِ ابن دابَّة”. فَذَهَبَ التلميذان وفعلا كما أمرهما يسوع وأتيا بالأتان والجَحْش. ثُمَّ وضعا عليهما رداءيهما، فركِبَ يسوع. وكانَ مِنَ النَّاسِ جمع كثير، فبسطوا أَرديَتَهم على الطريق، وقَطَعَ غَيرُهم أَغصانَ الشَّجَر، ففرشوا بها الطريق. وكانت الجموع التي تَتقَدَّمُه والَّتِي تَتَبَعُه تَهتِف : هُو شَعْنا لابن داود! تبارك الآتي باسم الرَّبِّ ! هُو شَعْنا في العُلى! وَلَمَّا دَخلَ أُورَشلِيم ضَجَّتِ المدينةُ كُلُّها وسألت: مَن هذا ؟ فَأَجَابَتِ الجُموع: هذا النَّبِيُّ يسوعُ مِن ناصرة الجليل.
وكان بَعضُ اليونانِيِّينَ في جُملَةِ الَّذينَ صَعِدوا إلى أورشليم للْعِبادَةِ مُدَّةَ العيد. فقَصَدوا إلى فيلبس، وكانَ مِن بَيتَ صيدا في الجليل، فقالوا له مُلتَمِسين : يا سَيِّد، نُرِيدُ أَن نَرى يسوع. فَذَهَبَ فيلبس فأَخْبَرَ أَندرواس، وذهَبَ أَندرواس وفيليس فأخبرا يسوع.
يارب! ندخل اليوم أسبوع الآلام، وكما كشف لنا القديس يوحنا، لقد أحببت خاصّتك، وأحببتهم للغاية. إنك الوحيد الذي لم يأخذك الموت على حين غرّة. الموت ليس قضاءً وقدراً، حياتك لا تُنْزَعُ منك خلسة أنتَ تُقدِّمها، بمطلق حريتك، محبّةً بأبيك وبنا نحن أخوتك.
يُسلّط الفصل الأول من الإنجيل، موضوع تأملنا لهذا الأسبوع، الضوء على طريقة عيشنا أحداث أسبوع الآلام. دخولك بهالة النصر إلى أورشليم، يبشرنا بانتصار الفصح. ويُجسِّد هذا الانتصار مسبقًا، عبر الرموز التي تمثلها أورشليم، وجموع الأولاد والودعاء الذين يهتفون لك، كما يهتف المختارون، وهم يواكبون دخولك بالمجد إلى أورشليم السماوية. يروي سفر ملوك إسرائيل، أنّهم كانوا يدخلون مملكتهم، مكلّلين بالمجد، بعد انتصارهم على أعدائهم، وكانت الجموع تستقبلهم بهتاف: «الهوشعنا!» وتعني «امنح الخلاص!» ملوِّحة بأغصان النخيل وفروع الزيتون. لقد رفضت دوماً الإعتداد بالنفس، كنت تتوارى كل مرة عن أنظار الجموع، التي كانت تسعى لتنصيبك ملكاً، متحمّسة لصنعك المعجزات. وإذ ترتضي اليوم، أنْ تُستقبل بالهتاف، يعني أن ساعتك قد أتت. أعداؤك أضمروا الحكم عليك. لا داعي بعد أن تكتم السر بأنك المسيح الرب. إنها المرة الأولى التي تسمي بها نفسك الرب، «كبطاقة شخصية». «فإن قال لكما قائل شيئًا”، هذا ما أوصيت به التلميذين، حين أرسلتهما ليبحثا عن الأتان والجحش – فأجيبا: «الرّب محتاج اليهما”. لقد دقّت ساعة الحقيقة، ويشهد لها الصغار والودعاء.
تزهو كل تفاصيل عيد اليوم بالعفوية. توافدت جموع الحجاج من كل المناطق، واجتاحتْ أورشليم، قبل بضعة أيام من الاحتفال بعيد الفصح. إنهم أناس بسطاء، قلوبهم طاهرة وَوَرِعَة. منهم من سمعوا عنك، البعض التقوك، شاهدوا معجزة، وآخرون أصغوا إليك، حين فسّرت التوراة في مجمع قريتهم، والمعجزة الأخيرة التي أنجزتها للتوّ، بإحياء لعازر، أثارت ضجة كبيرة. وبيت عنيا لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن اورشليم. ففي بلادك كما في بلادي، لا نخجل من التعبير جهارًا عن فرحنا أو عن حزننا. إنها الحماسة المفرطة، وقد غمرت الجموع، لعلمها أنك في طريقك إلى أورشليم. لقد رأوك في بيت فاجي، على بُعد ثلاثة كيلومترات. تصعد إلى أورشليم راكبًا على جحش ابن أتان، يرافقك تلاميذك. للحال تسارعت الجموع من كل صوب، لتقطع أغصان النخيل، وتبسط ثيابها وتفرش بها الطريق كسجادة لتسير عليها. لم تخطئ الشرطة الرومانية، وهي على استعداد لقمع كل مظاهرة، إن الأمر يتعلَّق بعيد شعبي بتظاهرة عفوية تعبيرًا . إن الذين استقبلوك هكذا بالترحاب، خفق قلبهم بالشعور العميق، إنك المنتصر. إنتصرت على الحقد، على الظلم، على الحسد والأنانية … وهذه كلها يُمثّلها اسم واحد : “الماكر” .
يا للمفارقة بين الاستقبال الذي يُقام لعظماء هذا العالم، واستقبال سيّد العالم ! لا يُفرَشُ السَّجَادُ الأحمر وتسير المواكب العسكرية، وتنصب أقواس النصر، وتصدح الأبواق ،وينظّم احتفال رسمي، بل على العكس، يتسم الاستقبال بالبساطة والارتجال وحتى «الفوضى»… وترقُّب الحاسدين والمتآمرين. إرتضيت ان تُظهر ملكوتك، بموافقتك على هذا الاستقبال البسيط، المغمور بالفرح واللطف. عَظَمتُك طَبَعتْ إرادتك، بأن تكون المخلّص الوديع والمتواضع. اخترت ان تركب الحيوان الاكثر مسالمة وهدوءا، مطيّة الناس الفقراء. لو أردتَ أن تحتلّ أورشليم، لو رغبت أن يعترف بك الفريسيون ورؤساء الكهنة، ويهتفون لك، لما احتجت إلا لمجرد إشارة منك، كما دعاك ابليس في البرية. لكن ملكوتك لا يُغتصب. ملكوتك ليس من هذا العالم. أنت ملك اليوم، وسط هتاف البهجة و الهوشعنا»! وغدًا ستكون الملك أيضًا، ولكن وسط هتافات الحقد و«اصلُبه»! ملكوتك أبدي. لا أحد يستطيع أن ينتزعه منك.
ونحن، هل نعترف بكَ مَلِكًا على حياتنا، وعائلاتنا، وعلى مؤسّساتنا في ازدهارها كما في ضيقها؟ في أوقات النّعم، وفي أوقات المحن؟ ألا يحدث لنا، بعد الابتهاج بلقائنا بك، في سرّ المصالحة والأفخارستيا، أن نُنكِرَك لأول غيمةٍ تُكدِّرُ حياتنا؟ كم من المرات راوغنا بين موقفين: استقبال كلمتك، ورفض ما يُزعجنا في رسالتك ! نهيم حماسة، وفجأةً نغرق في الفتور. نَزخَر نشاطاً، ونرزحُ خوفًا. نفيضُ بالمحبّة ونستَسلمُ للحقد. إذاً، نحن أيضا من عداد من يصرخون «اصلبه» بعد ان هتفنا هو شعنا»!
لِنُصَلِّ:
يا رب على مثالك، علينا أن نعبر بالصليب لكي ننهض اعضُدْنا لنتقبَّلَ صلبان دروبنا ، اعضُدْنا لنعيشها معك في عطاء المحبة! ساعدنا على أن نشعر بالقلب أنَّ الصليب الذي هو حماقة وخزي لِغيرِ المؤمنين، اختاره الله «قدرةً وحكمة» (كورنتس ١-٢٣ ) .