أحد الشعانين
ما كانت الدقة الأولى من الجرس تبلغ المسامع حتى كنت ترى طلائع ملائكة العيد تتوجّه إلى الكنيسة على القدمين، أو على أذرع الوالدين. فالشّعانين هي عرس الطفولة المنادية بالهوشعنا.
وقبل هذا اليوم، وفي النصف الثاني من زمن الصوم، كنت ترى الأمّهات في عمل كالمكّوك، ودأبهنّ التستّر والخفية، وإلاّ ضاعت المفاجأة، وتسرّب لون البدلة وشكلها قبل الأوان. وكانت أمّي تقصد المدينة ، بعيدًا عن الأنظار، وتنتقي من محلاّت الأقمشة ما كانت تراه مناسبًا، وهي المتمكّنة من فنّ الخياطة تصميمًا وتطريزًا، وتستنخب الأزرار الملائمة، والأشرطة والورود والقبّعات، وتحملها إلى المنزل في المساء، بعيدًا عن عيون الفضوليّات والفضوليّين، ثمّ تأخذ بوضع برنامج العمل، بما لا يتناقض وسرّية التنفيذ والواجبات العائلية، فتراها تنكبّ في المساء، وعندما يتوفّر لها الوقت في النهار، على عمل تراها منصرفة إليه بكلّيتها. وكنتُ حين أرى درفة الباب مردودة إلى حدّ الإقفال، أدرك أنّ أمّي تحاول أن تحضر “مكنة الخياطة” فأسرع إلى مساعدتها، وما هي إلاّ دقائق حتى تراها جالسة على تلك “الطرّاحة”، وقد رفعت غطاء”المكنة” وثبّتتها على “طبلية” الخشب التي صنعها لها والدي بشكل يجعلها تعمل مستقيمة الظهر، فلا تضطرّ إلى الانحناء، وتعالج المكّوك فتلفّ عليه الخيط الّذي تريد استعماله، وقد كان لديها العديد، ومن مختلف الألوان، غبّ الطلب، وأجلس إلى جانبها أدير الدولاب، أو قبالتها أمسك الثوب من طرفه لمساعدتها على درزه، شرط ألّا أجذبه بقوّة، مخافة أن يتمزّق.
وعندما تنتهي عملية الدّرز تراها تنقّل الإبرة بين أصابعها بخفّة ورشاقة، وإذا بقطع القماش، بعدها، تزهو بما يحلو للعين من تطريز وإبداع. ولا يكاد أسبوع ما قبل الشعانين ينطوي، حتّى تراها قد علّقت الملابس في الخزانة نظيفة مكويّة، ورصفت في الجزء السفلي علب الأحذية، وفي كلّ منها الجوارب الملائمة، لتنصرف، بعدها، مع والدي إلى شراء الشّموع، ولكلّ منّا شمعة بطوله.
وتروح الأنظار، يوم العيد، تتنقّل بين الأطفال، وتتحكّم بها الحيرة في انتخاب الأجمل، فكلّ طفل هو الأمير في نظر والديه. ولمَ المكابرة والمشاكسة؟ فاليوم عيد الفرح، ولن يبدّل الواقعَ رأيٌ من هنا وتعليق من هناك. فالمهمّ أن نفرح.
وندخل الكنيسة، بعد أن نجتاز الساحة بنوع من الجلال، وإذا بالجدران ترتجّ، إنّها دقّة البدوة، ولها وقع “غير شكل” تحت زنود شباب لم أجد في تنقّلاتي مَن يفوقهم فنًّا ومقدرة على قرع الجرس.
ويرسل الشمّاس صوته، ويتبعه الكاهن، بقراءة “الحسّاية” فاقبل يا وادّ التائبين فالإفراميّات فتبريك أغصان الزيتون، فيما أنظارنا شاخصة إلى جهة المذبح، فحين نرى أنّ الصليب الفضّي المعقود بالشريطة البيضاء قد تحرّك، من قرب باب “السكرستيّا” وراء المذبح، نبدأ بالتململ لإضاءة الشموع، لأنّ الكاهن على وشك البدء بالزياح. فينطلق حامل الصليب، فالكاهن، فمَن يخدمون، وبعدهم جمهور المؤمنين وقد اعتلى الصغار أكتاف آبائهم، فلا تعود تسمع وسط سعف النخل والزيتون إلاّ أصواتًا اختلطت فيها الطلبة مع أصوات الأطفال وأمّهاتهم، هذه للفت الطفل إلى أخذ صورة له، وتلك للتحذير من طريقة الإمساك بالشمعة فقد تحرق الآخر، أو ينساب ما ذاب منها على الثياب، فإذا بطبقة شمعيّة بيضاء تتجمّد لتوّها.
أمّا عن زينة الشموع فلا تسل. فهي صورة عن مزاج الأهل، وإن كان الزيتون قاسمًا مشتركًا بينها، مع الشريطة المناسبة. فهذا اكتفى ببساطة الشمعة على هذا النحو، وذاك ركّز عليها الورود، وآخر العصافير، وذلك باقة من أزهار الغابة المحيطة بالضيعة.
ولعلّ أكثر ما كان يثير الانتباه الشموع التي تحمل المواسم، فمنها من يعلّق بها كعك العيد، ومنها الجنارك والأكيدنيا واللوز الأخضر، دون أن ننسى، وهو الواقع، أنّ لثمرة الجنارك في منطقتنا نكهة مميّزة دفعت ببائعي الخضار، في وقت من الأوقات، إلى إطلاق عبارة ” شحرر يا جنارك”- في إشارة إلى بلدة وادي شحرور- إيذانًا ببدء الموسم. ويبقى الأطرف ما عمد إليه أحدهم، العمّ طانيوس جريس الخوري، في إحدى السنوات، عندما علّق “بطحة” عرق في الشمعة، وأخذ يدور بعد الزيّاح بجرعة جرعة على الحاضرين بقصد التبرُّك. إنّها البساطة والعفويّة، ركن الحياة الهانئة في تلك الأيّام!
ويمتدّ الزيّاح لثلاث دورات في الساحة بمحاذاة المدرسة(الصالونات اليوم) فباتّجاه القنطرة، أوّل الساحة لجهة الدرج، على وقع قرع الجرس تتناوب عليه زنود قويّة، ثمّ يعود المحتفل والجمهور إلى الكنيسة لإكمال القدّاس، فيدخل البعض، ويبقى البعض الآخر في الساحة مفضّلاً التحادث والتسامر، فيطغى صوت الخارج، أحيانًا، على صوت الكاهن والشمّاس في الداخل؛ وتلك عادة لم أجد لها تفسيرًا ملائمًا.
وينتهي القدّاس، ونعود إلى المنازل. وتمضي الأيّام، ونكبر. وحدها الشعنينة عصيّة على العمر، فقد توقّف عندها الزمن، وما زالت بعمر الأطفال في قلوبنا.
المحامي
جورج ميشال ابو خليل