لأن ” الحليب كاويه”:لبنان يقارب بحذر طروحات واشنطن

جوزف القصيفي


تتزايد الضغوطات الاميركية على لبنان من أجل حمله على نزع سلاح ” حزب الله ” في فترة زمنية محددة ولو إقتضى ذلك إستخدام القوة من قبل الجيش اللبناني. وقد ترافقت الضغوطات مع غارتين على الضاحية الجنوبية لبيروت في أوسع عملية خرق متعمد لوقف إطلاق النار وأخطره،بتغطية اميركية واضحة تلمسها المراقبون خلال تصريحات مورغان اورتاغوس ذات النفس التصعيدي المنحاز كليا للدولة العبرية التي أعطيت حقا لا تملكه في لبنان والمنطقة،بأن تكون صاحبة اليد العليا متكئة على ترسانتها العسكرية المتفوقة، وتأييد واشنطن غير المحدود لها. لكن السؤال : هل أن الجيش قادر على هذه المهمة لأنه يحتاج إلى قرار سياسي رسمي واضح تتحمل الدولة اللبنانية كل تبعاته. وهذا القرار يحتاج إلى إجماع أو ما يشابه الإجماع. فإذا اقدم من دون توفير هذا الشرط اللازم، سيدخل في مغامرة يصعب التكهن بنتائجها.وإذا لم يقدم تخوفا من التداعيات، فإن الولايات المتحدة الاميركية التي تسيرها إدارة راديكالية لا تقيم وزنا لأي شيء، ولا تهمها الحسابات الداخلية مهما كانت معقدة، ستطلق يد إسرائيل لمواصلة إعتداءاتها التي قد تبلغ حد الاجتياح بغرض إيجاد معادلات جديدة لمحاصرة الحزب وبيئته، والتضييق على الطائفة الشيعية ومناطقها،لفرض الاستسلام بشروطها، وفي ظنها أن هذا العمل سيضعف الطائفة ويدفع بها إلى القبول عنوة باملاءات ترفضها تؤدي إلى التطبيع، وبالتالي إلى إتفاق سلام. وترى واشنطن أن المقاومة في لبنان قد ضعفت وانكفأت بعد الضربات الموجعة التي تلقتها خلال الحرب الأخيرة، وأن الوقت قد حان لاستثمار نتائج الحرب من أجل سلام وفق المحددات والمواصفات الاميركية- الإسرائيلية، على إعتبار أن لبنان يبقى الحلقة الأصعب للسير في التطبيع و” الباكسا اسرائيلو- أميريكانا”،طالما لم ينزع سلاح المقاومة ويحجم ” حزب الله” إلى الحدود الدنيا. ولا يمكن للإدارة الاميركية أن تتخيل لبنان بعد سقوط النظام السوري السابق، وما افرزه على الارض من تداعيات أصابت وحدة سوريا في الصميم وادت إلى تصدعها، وافقادها كل قدرة على مواجهة تل أبيب سياسيا وعسكريا، خارج منظومة الدول العربية المطبعة معها. لذلك هي تتبع معه سياسة” العصا +” و”الجزرة”، لقبول ما يعرض عليه: الاعمار مقابل إسقاط سياسة العداء لإسرائيل من دستوره وقوانينه، والقبول بتوطين الفلسطينيين في أرضه وطي صفحة المناداة بحق العودة على اساس القرار 194/ 48، وكل القرارات الاممية اللاحقة ومنها القرار 242والقرار 338 وهما يقومان على مبدأ الارض مقابل السلام. وفي اعتقاد الجانبين الأميركي والاسرائيلي أن إقفال الملف اللبناني على النحو الذي يلائم ما رسماه،سيفتح الطريق لاستكمال مخطط إفراغ غزه ، ومن ثم الضفة الغربية من سكانها الفلسطينيين، واسقاط حق العودة الذي ثبتته قمة بيروت في السابع والعشرين من آذار 2002،والتي أفرزت ما أطلق عليه” مبادرة بيروت للسلام” الذي كان لولي العهد السعودي يومذاك الأمير عبدالله بن عبد العزيز ( خادم الحرمين الشريفين لاحقا) اليد الطولى في ابصارها النور وإطلاقها. وإذا تم لاسرائيل ما ارادت، فإن ذلك يعني سقوط حل الدولتين. الرئيس جوزاف عون طرح استباقا قبل القمة التي جمعته في باريس مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون موضع المؤتمر لبحث إستراتيجية الأمن الوطني، وهذا يعني ضمنا دور المقاومة المستقبلي وسلاحها تلافيا للدخول في لعبة نزع السلاح عنوة تحسبا لما قد يخلفه ذلك من تطورات تنعكس على السلم ألاهلي في البلاد. فيما تقوم بعض القوى الممثلة بالحكومة بالدعوة جهارا إلى نزع سلاح ” حزب الله” ولو إقتضى ذلك اللجؤ إلى القوة والعنف. لبنان الرسمي يدرس الموقف بدقة وأن يزن سلبيات وايجابيات اي قرار يتخذه. وهو في موقف لا يحسد عليه لان وحدة الحكم، ووحدة المؤسسات جميعها على المحك اذا ذهبت الأمور إلى المنحى الصدامي الذي يريده البعض تحت شعار الانصياع للشرعية الدولية بذريعة ” العين التي لا تقاوم المخرز”. وفي أي حال علمت التجارب أن الرهان على واشنطن لم يكن دائما سليما في غير بلد من العالم، وادى أحيانا إلى عكس ما كان يتوخاه من سار في توجهها. إن الوضع الراهن لا يحسد ولا يركن إلى خواتيم مضمونة اذا كانت خارج قاعدة التوافق الوطني، لأن القيمين على الحكم سواء في سدة الرئاسة الأولى، أو في المجلس النيابي أو الحكومة يعرفون جيدا المثل الشعبي الذي يقول ” لماذ تنفخ اللبن؟ لأن حليبه كاويني”. إن الرئيس جوزف عون يصر على معالجة ما إستجد من تطورات مع المسؤولة الاميركية التي ستستمع إلى موقف لبناني رسمي واحد ينطلق من الاحترام لقرار وقف إطلاق النار وضرورة تنفيذه وفق آلية مختلفة عن تلك التي وردت على لسانها، ونسبت إلى واشنطن،لأن للبنان نظرته الخاصة إلى الآلية ،ويصر على أن اي مقاربة يجب أن تأخذ في الاعتبار الوضع الداخلي في لبنان وتعقيداته السياسية، خصوصا ان الاحتقان في الداخل لا يزال قائما، ويشكل مصدر خطر اذا ما استمرت الحملات الاعلامية على الوتيرة المقلقة التي تشهدها البلاد بين الأطراف المتنازعين. سيكون باب الحوار مفتوحا بين الجانبين اللبناني والاميركي حول كل الموضوعات مفتوحا من دون أن يؤدي التباين حول بعض النقاط إلى إيصاد الابواب . لكن المعطيات تشير إلى أن إسرائيل ستواصل ضغطها، ومحاولات التصعيد الميداني الذي يتجاوز الجنوب مثلما حصل في الأيام القليلة الماضية من دون أي رادع. على أن لبنان لن يكون قادرا على الاستسلام لشروطها، ولا راغبا في الانقياد لقواعد جديدة ميدانية وسياسية تزيد الوضع الداخلي تصدعا. وأن ثمة من يشاطر لبنان رأيه عربيا واوروبيا، ويسعى إلى مؤازرته في مهمته الصعبة بمواجهة جموح تل أبيب المتفلتة من اي قيود والتي تحسن التفيؤ تحت المظلة الاميركية بعدما أصبحت واشنطن هي الدافع الأول لكل ما يحصل، بدليل تبنيها الدائم لمنطق نتنياهو المرتاح لدعمها المطلق وغير المحدود.