صباح الخير وأحد مبارك

أحد شفاء الأبرص

يا رب ها إِنَّ أبرصَ يَظْهرُ فجأة، وأنتَ تَعبرُ الجليل. إِنَّ هذا المشهدَ لَيُدهِشُنا، لأنَّ البُرص كانوا يُقصون عن المجتمع. وَيَقطنون في أماكن غير مأهولة. ولا يحقّ لهم دخول المدينة، وإن اقتربَ أحدٌ منهم، تَوَجَّبَ عليهم الإعلان عن وجودهم، كان البَرَصُ يُعتَبَرُ مَرضًا مُعدِيًا وخطيرًا، علامة تأديب إلهي . وكان يُعتبر أيضًا جزاء عدمِ الأمانةِ لِلَّه ، إِذ يَتَنَجَّسُ الإِنسانُ ويُقصَى عن المدني كما عن الجماعة الدينية.
كيف عرفك هذا الأبرص؟ كيف سَمعَ عن مُعجزاتِك؟ كلُّ ما في الأمر أنَّ إيمانه حمله، على أن يتجاوَزَ المُحرَّمات، ويقترب من مكانٍ مأهول. إنَّه لا يخشى شيئًا، لا الأقاويل ولا الفريسيين ولا الشرطة الدينية. مُبتغاه الوحيد أن يأتي إليك ومن أجل هذا المُبتَغى يَتَحدَّى كُل الحواجز.
بادرَك بكلماتٍ بسيطة، عبَّرَتْ عن مدى تواضعه ونقاوة قلبه. هو من يُعتبرُ خاطئًا مُحتَقَرًا، وبنظرِ الشريعة نجسًا.
“إن شئت فأنتَ قادرٌ أن تُبرِئني”. يتقدَّمُ منك كالشحاذ مُتوسّلاً، ليس المساعدة وحسب، بل القليل من الانتباه، يعلم جَيِّداً أنَّه لا يستحقُ الشِّفاء، لا يَتَّكلُ إلا عليك، على رحمتك التي سَمِعَ الكثير عنها.
” أنتَ قادرٌ ان تُبْرِئَني أبرأتَ الكثيرين” إنَّه على يقين من قدرتك، يا له من فعل إيمان عظيم!
نظرتَ إليه، يذكرُ مرقس، النَّاطق الأمين بلسان بطرس، وأشفَقتَ عليه. تُشفِقُ على عذابِ الإنسان وآلامه ولا يُغيظك سوى الخطيئة، نَظرُكَ يَقطرُ رحمة، وإيمانُه يُضرمُ قلبك، مَدَدْتَ يدَك، وبحركة سامية لمستَه، مع أنَّ الشريعةَ تمنعُ منعًا قاطعًا لمسَ البُرص. هذه العلاقة الحِسِّيَّة قدَّسته.
“قد شئتُ”، التَّلَفُّظ بهذه الكلمات زال عنه البرَصُ للوقت. أنت الخالِق تُعيدُ الطَّهارة إلى خليقتك، تُطَهِّرُ جسده ونفسه في آن معًا. ونحن نتابع تصرُّفَك، نكتشف الطريقة التي يُمارسها خَدَمةُ كنيستك، وهم يمنحون الأسرار باسمك، ويُقرنون الكلمة بالإشارة الرَّمزيَّة مُرفِقين الكلمة بالإشارة.
ما إن شُفي، حتى ابتَهَج فرحًا وفاضَ قلبه بالشُّكر والامتنان ولكن لِمَ اتَّخذتَ هذه اللَّهجة العنيفة تِجاهَه؟ فَأَنذَرْتَهُ : “إِيَّاكَ أن تُخبر أحدًا بِشيء” . تُرسِله إلى الكاهن لِيُريه نفسه، وأن يتقيَّد بما تأمُرُ به الشَّريعة. وأنتَ توصيه بهذه الأمور، توحي إليه بأن يُلائم حياته مع نعمة الشفاء التي نالها لِتَوِّه. إنَّ رِسالتك ليست بشرية بل إلهية. لم تأتِ لتجترحَ المُعجزات، ولا لِتَنْقُضَ الشريعة، بل بالعكس، جِئتَ لتُكمِلها، أي لِتَبلُغ بها إلى الكمال. وإن نَقَضْتَها منذ لحظة بلمْسِكَ الأبرص، فَلِدوافع سامية من الرَّحمة والمحبة. أمَّا المعجزات فما هي بِحَدِّ ذاتها، سوى إشارات تَحُثُّنا على رَفعِ أنظارنا نحو السماء، لِنَتَعَمَّق برسالتك، وَلنؤمن بِشَخصِك. كم يَلزَم تلاميذك من الوقت لِيَفقهوا أَنَّكَ المُخَلِّص! مُخَلِّص سَيَعبُر إذلال الصَّلب وعارَه، قبل أن يقومَ في المجدِ. ولكنَّ الوقت لم يَحِن بعد. أنتَ تَعلم التَّجاوزات التي تُسَبِّبها حماسة الجموع وتأبى أن تضع فيك رجاءً زمنيًا، وتتغافل عن الحقيقة التي تحملها إلى العالم.
لم يفهم الرَّجلُ المُشفى سَبَب تَكَتُّمك. ولم يَتَمَكَّن لِغُلُوِّ فَرَحه وَفَخره من أن يُخفي سعادته، خاصَّةً وأنَّ لديه سببًا يتباهى به، فراح يُنادي ويُذيعُ الخبر لمن يشاءُ السَّماع.
لِذا لم يَعُدْ باستطاعَتِك أن تدخُلَ مدينةً علانية، من دون أن تُسبِّبَ الازدحام، عليك أن تَنسَحِب على انفراد.
شعر هذا الأبرصُ بأنَّه مَحبوب ومَقبول، وقد أُعيدَ إليه الاعتبار. فَهِمَ البعضُ من شهودك هذه الرسالة: “الأب داميان راوول فولرو، الأم تريزا، البابا يوحنا بولس الثاني” ومارسوا على مثالِكَ لَمْسَ البُرص وتَقبيلهم.
أنتَ يا ربُّ الشافي الإلهي إنَّ بَرصَ هذا الرَّجل صورةٌ لخطيئتي، أرى نفسي جريحًا لا أمل لي في الشفاء، أقصَيتُ نَفسي عن الاتِّحادِ بك وبإخوتي. ولكن نظرًا إلى عذابي وتوبتي، تنظرُ اليّ، تمدُّ يدَكَ لتُنهِضَني وتُبرئني، من أجلي، جعلت نفسك أبرصَ، كما يَصفُكَ النبي أشعيا، غَدوت خطيئة. وإن كنتَ حرَّرتَ الأبرصَ من عُزلَته وأعَدتَه إلى المَجمع مُعافی ، فأنت بذاتِك، سَتُعاني من هذه العزلة، لأنَّك ستُصلَبُ خارج أسوار أورشليم.
أنتَ البار، اتخذت مكاننا نحنُ الظالمين. أنت البريء، تحمَّلت مسؤوليتنا نحنُ المُذنبين.
لِنُصَلِّ:
فَلْتَغمُرْنا نعمتُكِ لِنُصبِح قادرينَ باسمك، على أن نَجذب لِلشِّفاء، الذين هم بحاجةٍ إلى أن يتصالحوا مع أنفسهم ومع الحياة! لِتَتَشَبَّه أيدينا بيديك: فَتُمسي أيدي تَمنَحُ جميعَ إخوتنا الَّذين يتألَّمون، البسمة والسّكينة.
تأمّلات روحيّة من كتاب الإنجيل في صلاة للأب منصور لبكي.