صباح الخير وأحد مبارك
الإنجيل بحسب القديس يوحنا
يو ١٥/١٤-٢١
لن أدعكم يتامى
إذا كُنتُم تُحِبُّونَني ، حَفِظْتُم وَصاياي وأنا سأسأل الآب فَيَهَبُ لكم مؤيِّداً آخَرَ يَكُونُ مَعَكُم لِلأَبَد رُوحَ الحَقِّ الذي لا يستطيع العالمُ أَن يَتَلَقَّاهُ لأَنَّه لا يراه ولا يَعرِفُه.
أمّا أنتم تعلَمونَ أنَّه يُقِيمُ عِندكم ويكون فيكم. لن أدعكم يتامى، فإنِّي أرجع إليكم. بَعدَ قَلِيلٍ لَن يَراني العالم. أَمَّا أَنتُم فَسَتَروني لأنّي حيّ ولأَنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون. إِنَّكُم في ذلك اليوم تعرفونَ أَنِّي فِي أَبِي وَأَنَّكُم فِيَّ وَأَنِّي فِيكُم. مَن تلَقَّى وصاياي وحفظها فذاكَ الَّذِي يُحِبُّني والَّذِي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وَأَنا أَيضاً أُحِبُّهِ فَأُظْهِرُ لَهُ نَفْسي .
يا رب، إنّ عيد العنصرة ، يختَتِم الزّمن الفصحي. وتعني كلمة “عنصرة” وهي من أصل يوناني – “الخمسين”، يُفسّر لنا القديس اوغسطينوس أنه الرقم الخاص بالروح القدس الذي يعمل في تاريخ البشر . لعشرة أيامٍ مضَتْ، وَعَدْتَ رُسُلَكَ وأنتَ تغادرهم، لِتَستَعيد مُقامَك عن يمين الآب: “إني أُرْسِلُ إليكم ما وَعَدَ به أبي، فامكثوا أنتم في المدينة إلى أن تلبِسوا قوَّةً من العلى” (لوقا ٤٩/٢٤)
نَستعيدُ اليوم، مقطعاً من خطابك الوداعي لتلاميذك، بعد العشاء السري. على مدى الإنجيل، تُعلن لنا عن الرّوابط الوثيقة التي تُوَحِّدُك بأبيك، ولكن أثناء اللّحظات الأخيرة لحياتك، تغوصُ فعليًّا في سرِّ الثالوث الأقدس، وهو السِّرّ الجوهري للإيمان وللحياة المسيحية.
“إذا حفظتم وصاياي تثبُتون في محبتي”.
إنّك تُرَكِّز من جديد على المحبّة، وأفضل برهان على المحبة هو الأمانة. هذه العبارة هي صدى للكلمات التي تلفَّظتَ بها، بعد غسلِ أرجُل تلاميذِك: “أعطيكُم وصيّةً جديدة: أحبّوا أنتم أيضًا بعضكم بعضاً، كما أحبَبتكم”. لهذه الكلمات الأخيرة صدىً خاص، بعد ما أنجزتَهُ أمامَهُم. أنتَ تطلُبُ أن تتجاوز العلاقة بينهم، حدود التّلاطُف أو الصّداقة: ما تبتغيه هو أن يَتَحلّوا بروح خدمة حقيقي. وبالفعل، لا فرق بالمعنى بين “أَحبَّ” و “أطاعَ”.
والطّاعة هي الشّرط لتحيا المحبة وتَنمو وتتطوَّر، وليَتَّسِع القلب، إلى أن يُسمَحَ لأبيك ولك أن تَغمُراه بِحضورِكُما، وهذا الحضور ما هو إلا المحبّة والرّحمة: “وإذا أحبَّني أحد […] فأحَبَّه أبي، ونأتي إليه فنجعلُ لنا عندَه مقامًا”. لا يُمكِن أن يأتي الآب إلا معك، وَوِثاق المحبّة، روح المحبّة الكائن بينكما، هو الرّوح القدس. إنها لنعمة عظيمة بأن نحظَى باستقبال الثالوث فينا ! غَدَونَا نَعْلَمُ أَنَّ الله واحدٌ ولكن ليس متوحِّدًا”. يُمكِنُنا أن نهتف مع الكنيسة: “أيّها الثالوث، النور الطوباوي، أيتها الوحدة الجوهرية” (صلاة العصر). الله محبّة، آب، إبن وروح قدس.
على تلاميذك ألّا يَحزَنوا. فلن يكون فراق بينكَ وبينَهُم، بل بالأحرى وحدة. بالطبع لا يَنعَمون بعد بالحضور الحِسِّي، لكنك تُعلِنُ لهم، بأنّك ستسألُ الآب، أنْ يُرسل لهم مُعزّيًا لِيَمكُثَ معهم إلى الأبد. يَشرحُ لهم كل ما لم يُدرِكوه إلا جزئيّاً، وبطريقة غير كاملة، أو ما لم يرغبوا في فَهْمِهِ من كُل ما كَشَفْتَهُ لهم. كانت كلماتك تبدو لهم قاسية، أو لا تتطابق مع الفكرة التي تصَوَّروها عن رسالتك.
وبالفعل، يومَ العنصرة سَيَحِلُّ روحك القَدُّوسُ على رُسُلِك، وحينها سَيُدرِكونَ معنى كلامك، وبالأخصّ معنى تَضحِيَتك، وستزولُ كُلّ مخاوفهم وكل شكوكهم. عندها يُمكِنُهُم أن ينطَلِقوا للتّبشير بالإنجيل، والدّعوة إلى الدين الجديد الّذي عَهَدتَ به إليهم. “كما أرسَلَني الآب، أرْسِلُكم أنا أيضًا” (يوحنا ٢١/٢٠)
يا ربُّ كم هو مُحِق بأن تدعو الروح القدس “المُعَزّي”. فهو بالفعل من يعرفُ أن يُحوِّلَ بُكاءنا بسمة، ويأسنا رجاء. هو الذي يوحي لنا، إن التمسنا عونَه ما يجب أن نقوله ونفعله، ما يجب أن نحفظه في قلبنا ونتحمّله. إنه يُذَكِّرُنا بتعاليمك، مُسبِغاً عليها المعنى الحقيقي لما قُلْتَ وفعلتَ. إنَّه مكمِّلٌ عملك في الكنيسة. يفتح عقول البشر لفهم أسرارك. ويُقَوّيهم بنعمتك بواسطة الأسرار، ويُرشِدُهم إليك.
كان القديس لويس غرينيون دو مونفورت يقول: “عندما يعثُر الروح على مريم حاضرة في نفسٍ ما، فإنَّه يُسرِعُ نحوها ويستَقِرُّ فيها، ساكبًا عليها غزير نِعمه (ويَتَّحِدُ بها بمنتهى حُبِّهِ) فَلْنَلْتَمِس من مريم، عروسة الرّوح القدس، أن تُعَلِّمَنا تواضُعها، لنخضَعَ على مثالها لعمل الروح القدس فينا، الذي يُصَيِّرُنا شهود محبّتك.
لِنُصَلِّ:
“هلم أيّها الروح القدس… طَهِّرُ ما كان دَنِسًا، إروِ ما كان يابسًا، إشف ما كان عليلاً، لَيِّنْ ما كان قاسياً، أَضْرِمُ ما كان بارِداً، دبر ما كان حائراً” (نشيد الروح القدس)
تأمّلات روحيّة من كتاب “الإنجيل في صلاة” للأب منصور لبكي.