حبل مريم بيسوع من الروح القدس
أمّا أصل يسوع المسيح فكانَ أَنَّ مَرِيمَ أُمَّه، لَمَّا كَانَت مَخْطُوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبْلَ أَن يتساكنا حاملاً مِنَ الرُّوح القدس. كان يُوسُفُ زَوجها باراً، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشْهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً. وما نَوى ذلك حتى تراءى له ملاك الرَّبِّ فِي الحُلْم وقال له : “يا يُوسُفَ بن داود، لا تَخَفْ أَن تَأْتِيَ بِامْرَأَتِكَ مَريمَ إِلَى بَيْتِكَ. فَإِنَّ الَّذِي كُوِّنَ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوح القُدُس، وستَلِدُ ابناً فَسَمِّهِ يسوع، لأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُ شَعبَه من خطاياهم”. وكان هذا كُلُّه لِيَتِمَّ مَا قَالَ الرَّبُّ على لِسَانِ النَّبِيّ: “ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فَتَلِدُ ابناً يُسمُونَه عِمَّانوئيل أَي الله معنا”. فلمّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّومِ، فَعَلَ كَمَا أَمْرَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ فأَتَى بِامْرَأَتِه إِلى بَيْتِه ، على أَنَّه لم يَعرِفُها حَتَّى وَلَدَتِ ابناً فسماه يسوع”.
ربّي، بعد أيام قليلة، سنحتفل بقدومك إلى عالمنا، وبغية إتمام استعدادنا النهائي لاستقبالك، فإننا مدعوّون لنتأمل “البشارة ليوسف”، ولنتَّخِذَ هذا القديس مثالاً لنا.
إنَّ المسيح سيكون من سلالة داود، هذا ما جاء على ألسنة الأنبياء. ومتى الإنجيلي الذي يتوجّه بالدّرجة الأولى إلى اليهود، يولي أهميّة خاصةً لمسألة سُلالتِكَ ونَسَبِكَ. وبعد أن عَرَضَ هذهِ السُّلالة في ثلاثة أقسام على التوالي، منذ ابراهيم إذا به لدى وصوله إلى يوسف، يبدِّل الإيقاع ويُعلن أنّك وُلدت من مريم، خطيبة يوسف.
تُعتبر الخطبة في الشرق إلتزاماً حقيقياً، فإن توفي أحد الخطيبين، عُدّ الآخرُ أرمل. وإذا خانت الخطيبة، جاز رجمها على أنّها زانية. يقوم الخطيب بدور الزوج أثناء الخطبة، إلّا أنهما لا يتساكنان قبل حفلة الزفاف، الذي يُحتفل به بعد حوالي السنة.
لمّا كانت مريم قد نذرت أن تبقى بتولاً لأجل الله، وجدت في يوسف رجل الثقة والإيمان، وهو تقبّل أنْ يُشاطِرَها هذا النذر، في كنف التزامهما بالزواج. كان يوسف ذاك الإنسان التقي العميق، المؤهّل لأن يتفهّم معنى البتولية التي هي طهارة القلب المُنفتح كلّياً على الله .
هل يُعقل أن تكون مريم قد أخفت على يوسف زيارة الملاك جبرائيل، وعَمَلَ الروح القدس فيها ؟
هل لَزِمَتِ الصَّمت عن قولها «النَّعم» لمشيئة الله، لتقبلك في أحشائها الطاهرة. أنتَ الآتي لِتُنقذ شعبك من الخطيئة؟ نظرًا للعلاقات الروحية العميقة التي كانت تربطهما، كان يوسف بدون ريب، قد علم بالسِّرّ الإلهي مِنْ فَمِ مَنْ كَانَ يُحِبُّها بكلّ حنان. لم يُخامِرهُ الشَّك تجاهها بل تُجاه نفسه. فمريم كانت مدعوّةً إلى رسالة تفوق استيعابه إلى حدٍّ بعيد. كان يشعر داخليًا أنه غير أهل ليقترب من هكذا سر، ولم يتلقَّ أيّة علامة تُظهِرُ له مشيئة الله . ظَنَّ أنّ لا حقَّ له بالتَّطفُّل وانتِحال دور لم يُعهد له، ففضّل أن يتوارى بلباقة وينفصل عنها بطريقة خفيّة حفاظاً على سرِّها، حينها تدخّلت السماء.
الحلم، في المفهوم الشرقي، نافذة مفتوحة على الغيب. يتدخّل الله أحيانًا من خلال أحلام نبويّة أو تحذيرية. في العهد القديم، أثار يوسف بن يعقوب حسد إخوته بسبب الإيحاءات الإلهية ليلاً، فلقّبوه «برجل الأحلام».
الحلم الذي رآه يوسف، يُظهِر كم أنه يضع قراراته ومسؤولياته تحت نظرِ الرب، هَمُّهُ أن يُتِمَّ مشيئة أبيك، ومستعد ليُطيع إشارات يحلو لأبيك أنْ يُرسلها له . فظهر الملاك جبرائيل وطمأنه: «لو تدحال » يا يوسف بن داود، «لا تخف أن تأخذ إليك امرأتك مريم»، ويؤكد له بتولية أمومتها. وأما هو، يوسف، الذي من سُلالة داود، فمدعو لأن يؤمّن لك بنوّتك البشرية بتبنّيكَ، وكأنَّكَ ابنه الخاص. تحقَّقت هذه البنوّة لمّا أعطاك اسمًا، وهو امتيازٌ خاص بالأب في المجتمع الشرقي. هذا هو تدبيرُ الله المنوط بإرادة إنسان! يوسف يقبل الرسالة الموكلة إليه. ابن داود يتبنى ابن الله. البار يستقبل عمانوئيل في سلالته. هكذا شئت، أن تحتاج إلى عائلة بشرية.
أشار إليك الملاك بإسمين: هل نتعجّب؟ إسم يسوع الذي أعطاك إياه يوسف، نزولاً عند مشيئة أبيك، ومعناه “الله يخلّص”، ويُشيرُ على أنك المسيح المنتظر، وإسم عمانوئيل: «الله معنا»، الذي ستُثبت بنفسك معناهُ يومَ تَرسم سِر الإفخارستيا ، لِتَمكُثَ معنا بعد صعودك إلى السماء.
إِنَّ طُرُقَ أبيكَ لا تُسْبَر ، كان بإمكانك أن تولد في قصر ملكي. وها هو نجّارٌ متواضع من سُلالة الملك داود، من سكان قرية صغيرة، يهتمّ بك ويسهر على تربيتك. الله يرى القلوب المتواضعة، ويطلب منها أمورًا عظيمة.
لِنُصَلِّ:
ربي إنّنا ، على مثال يوسف والدك، نشعر بأنّنا غير أهل للإقتراب منك، واستقبالك في قلوبنا، لأنّنا نفتقر إلى هذا التواضع، الذي هو معرفة ذواتنا على حقيقتها .
فليساعدنا القديس يوسف على أن نقوم أمامك في مكانِنا الحقيقي، لا المكان الذي نتمنّاه نحن، بل الذي ترتئيه لنا بالطاعة لإرادة أبيك.
تأمّلات روحيّة من كتاب الإنجيل في صلاة للأب منصور لبكي.